من صيد الإنترنت هذه المقالة لعثمان الحقيل:
توجهت مع ابني ذي السنوات الثلاث إلى سيارتنا فور خروجنا من مسجد المحطة التي على جانب الطريق، عندما هممت بالركوب ناداني طفلي الصغير وهو يشير بيده : بابا، بعَّه!! ( الترجمة : انظر يا أبي هذا حيوان أليف ) نظرت فإذا هذه البعَّه حمار مستقر في صندوق سيارة ونيت!!
شدني هذا المنظر كثيراً فمنذ سنوات عديدة لم أشاهد حماراً من هذه المسافة القصيرة!! ويبدو أن طفلي شاركني فضول النظر إليه، ولكن..عندما أخذت طفلي وتوجهت به إلى الحمار خاف واستوحش منه!!
هل لأنها أول مرة يشاهد فيها حمارا؟!
نعم هو كذلك إذ لم يسبق له أن شاهد حماراً أو حتى حصاناً بهذا التشويه!!
وفيما هرب طفلي إلى حضن أمه، وقفت أتأمل هذا الحمار، وأستجر من خلال النظر إليه والتأمل فيه الكثير من ذكريات الطفولة والصبا. إن ذكرياتي مع الحمير لا تمتد إلى العصر الذهبي لهن في بلادنا عندما كان يعتمد عليهن المسافر في سفره، والمقيم في تنقلاته، والمزارع في خدمة حقله، والبدوي في رعيه ...
بل تبدأ من أيام الطفرة النفطية الأولى التي جعلت الحمير في بلادنا تتعرض إلى محنة الشتات الكبير بعد أن استغنى الناس عنها، وأحلّوا مكانها السيارات والمواطير والمكائن والحراثات..
في تلك السنوات المشهودة بدأ الناس في طرد الحمير من مزارعهم ومراعيهم، فهي غدت في نظرهم عديمة الجدوى والفائدة، وذات كلفة متزايدة في طعامها وشرابها ...
واجهت الحمير في محنة الشتات المفاجئة متطلبات حياة جديدة لم تألفها أو تتعود عليها، وفيما لم تصدق بعض الحمير أن أسيادها تخلّوا عنها فصارت تلوذ بجدر بيوتهم وتستعطفهم بنهيقها طوال الليل دون جدوى!! اتجه بعضٌ آخر من الحمير إلى التسليم بالأمر الواقع والبحث عن سبل إلى التأقلم مع ظروف الواقع الجديد؛ فكان أن بدأت في التجمع على شكل قطعان متفرقة تتخذ من بطون الأودية وثغرات الهضاب مكاناً للنوم والاسترخاء، وفيما كانت حمير البادية أكثر قدرة على التعايش مع أعشاب الصحراء وحشائشها القاسية وجدت حمير الحاضرة المدللة صعوبة في تقبلها واستساغتها؛ فصارت تُغير في أوقات القيلولة على مزارع أصحابها السابقين وتعيث فيها أكلاً وإفساداً في تصرف فسره بعضهم على أنه انتقام على الطريقة الحميرية!! وكثرت في تلك الفترة حوادث دهس الحمير على الطرقات وبدت الصورة عند أكثر المتشائمين وكأن الحمير تسعى ـ في محاولة يائسة وانتحارية ـ إلى منازلة المنافس الجديد الذي زحزحها عن مكانتها التي احتلتها على امتداد قرون.. فيما كان بعض المتعاطفين يمنح المشهد بُعداً تراجيدياً حين يقول بنظرية انتحار الحمير احتجاجاً على قيم الحداثة الجديدة!!
عاصرتُ وأترابي السنوات الأخيرة من محنة الشتات هذه، ومنحتنا البطالة التي عانت منها الحمير، والفراغ الذي تنعمنا به بسبب الطفرة فرصاً سانحة للاستمتاع بركوبها والتنزه عليها، كانت الحمير المُسنة تستأنس بنا كثيراً على خلاف أبنائها ( أبناء الطفرة والصياعة ) فكنا نعقد معها صفقة غير مكتوبة بأن نربطها بعد المغرب في إحدى شجيرات النخيل، ونقرِّب إليها طعاماً وماءً على أن نعود إليها بعد الخروج من المدرسة لنلهو بها قبل الغداء وبعده إلى المغرب.
إن ركوب الحمير متعة رائعة، واكتشاف مثير لم أجد مثيلاً له فيما بعد لا في ركوب الدارجة ولا السيارة ولا حتى في ابن عمها الحصان، وحتى أكون أكثر صدقاً ودقة : ولا حتى في بعض الخراف التي كنا نركبها في غيبة الأهل ـ الله لا يعاقبنا ـ
تفك رباطه وتقوده راجلاً إلى جوار نخله.. ترتقي بضع كربات منها حتى تحاذي ظهره.. ثم تعلوه منتشياً.. تتشبث بالزمام الملتف حول عنقه، وتحرك مؤخر قدميك على بطنه فيسير بك هادئاً وادعاً.. تضرب مقدمة صدره يميناً أو يساراً بيدك فيسير في الاتجاه الذي تحدده ..تشد زمامه فيتوقف.. وأحياناً يتوقف من تلقاء نفسه ليشرب من ساقية الماء التي تمر تحته أو يأكل زرعاً يانعاً طاب له، وكان هذا التصرف الآني منه يمنحنا شعوراً مضاعفاً باللذة حين نجمع بين متعة الركوب والرعي !! وكن على حذر فقد يتآمر بعض الرفاق الأشقياء ـ ممن يتهيبون ركوبه أو يعجزون عنه ـ يتآمرون على معابثة الحمار وأنت فوقه بضرب مؤخرته بعصا أو نحوها حينها سيقفز الحمار راكضاً، ومآل مصيرك السقوط لا محالة، وسيكون حظك جيداً إن سقطت على الأرض ولم تهوِ على شجرة شوك يابسة أو صخرة ناتئة.
في تلك الأيام الجميلة من طفولتنا كان يشد أنظارنا مشهد الحمير السائبة وهي تسير في الصحراء أو بين المزارع في قطعان كبيرة قد تصل أعدادها أحياناً إلى العشرين، كان هذا المنظر يبدو لنا مُهيباً، وأحسب أن الحمير كانت تقاسمنا هذا الشعور!! وتتضاعف نشوة هذا المنظر كثيراً حين يكون القطيع مشوباً ببعض الحمير الصغيرة التي ولدت حديثاً، أو حين تتعدد ألوان الحمير وتتداخل وأخص منها الأسود الذي كان لوناً نادراً في الحمير النجدية.
حسناً ما رأيكم أن أعود بكم إلى حماري الوديع المستقر في صحن السيارة، والذي جرّت رؤيته حبال هذه الذكريات الجميلة.. كان الحمار لحظتئذ يحرك أذنيه وكأنه يقول لي:
أولئك آبائي فجئني بمثلهمُ إذا جمعتنا يا حمارُ المجامعُ
وقبل أن يتحامرعليّ بشيء آخر كان صاحبه قد خرج من المسجد واقترب مني مسلماً، فمددت إليه يدي وأنا أعلق مبتسماً على وقوفي بجانب الحمار: لقد أصبح منظر الحمير من الندرة بمكان بحيث تثير فضول كل من يلمحها فقال لي على الفور : أتقولها صادقاً لقد اشتريت هذا الحمار بألف وخمس مئة ريال!! واضطررت إلى قطع مسافة تزيد على 120 كيلو من أجل شرائه، ولم تتم هذه البيعة إلا بحب روس وخشوم أيضاً!! وأكمل قائلاً لقد تبين لنا من خلال التجربة والمعايشة أن الغنم والراعي لا يستقيم حالهم بدون حمار!! يبدو أن وجوده بينهم يمنحهم شعوراً خاصاً بالأنس والاطمئنان، وكثيراً ما ينوب الحمار عن الراعي في قيادة القطيع خلال رحلة الإياب.
شجعتني أريحية صاحب الحمار، وحلاوة حديثه على إدامة الحوار معه، والاستزادة منه،
فقلت له : كنا في صغرنا نشاهد الكثير منها في البر وبين المزارع، ولكن مع مرور الأيام صارت تختفي شيئاً فشيئاً إلى أن انتهينا إلى افتقادها بالكلية، فأين ذهبت ؟!
فقال لي: عندما استغنى الناس عن الحمير أطلقوا قيادها لتنتشر في الأراضي الخلاء وبين المزارع والمباني، ومع كرِّ الأيام تناسلت وكثرت أعدادها، وتحولت إلى مصدر قلق للمواطنين وإمارات المناطق؛ لأنها أصبحت تعتدي على بساتين المزارعين، وتتسبب في حوادث أليمة على الطرقات، فاحتار المسؤولون في التصرف حيالها، فهي عديمة الجدوى لا يمكن الاستفادة من لحمها أو ألبانها أوجلدها. فاقترح بعضهم أن تعامل معاملة الكلاب الضالة المؤذية؛ فتقوم الشرطة بإطلاق الرصاص عليها، وكادت إمارات المناطق أن تأخذ بهذا الاقتراح لولا أن الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ اعترض عليه عندما سئل عنه، ورأى أن هذا الخيار غير مبرر بل لا يجوز لأن الحمير من الحيوانات المستأنسة التي لا يمكن أن تـُعدم أوجه الاستفادة منها، واقترح بدلاً من ذلك أن يتم جمعها في حظائر خاصة تمهيداً لتصديرها أو إرسالها إلى الدول الإسلامية المحتاجة.. لم يُنفذ اقتراح الشيخ ابن باز ( لاشك أن البيروقراطية هي السبب فتنفيذ هذا القرار يحتاج إلى إنشاء وزارة جديدة اسمها وزارة الحمير والهجرة ) ولكن رغم عدم تنفيذ هذا الاقتراح إلا أن رأي الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ استطاع أن يوقف المجزرة التي كادت الحمير أن تتعرض لها بعد محنة الشتات القاسية!!
في تلك السنوات كانت العمالة اليمنية الشقيقة تعيش أوجّ قوتها وازدهارها وانتشارها، وبشطارة أهل اليمن التي تـُحيل التراب إلى ذهب تفتقت أذهانهم عن اقتراح يمكن من خلاله تجاوز العقبات ( البيروقراطية ) التي تحول دون تطبيق اقتراح الشيخ ابن باز، فكشفوا عن استعدادهم لتخليص البلد من هذه الحمير السائبة!! وذلك بحملها إلى بلادهم في رحلة إيابهم السنوية..
وافق المسؤولون على هذا الاقتراح الذي لا يكلف البلاد شيئاً، وما أن شرع العمال اليمنيون في جمعها والسفر بها حتى ظهرت لهم عقبة ( بيروقراطية ) جديدة!! فالأنظمة تمنع انتقال أي حمار إلى دولة أخرى ما لم يكن حاصلاً على صك بيع أو تنازل من صاحبه الأصلي!! والإشكالية هنا أن هذه الحمير سائبة لا يُعلم صاحبها وكثيرٌ منها ولدت في عصر الشتات، ومن ثم فليس لها صاحب!! ورغم هذه العقبة الكؤود إلا أن اليمنيين ـ بشطارتهم المعهودة ـ استطاعوا تجاوزها ، وذلك بأن اتفقوا مع إمارات المناطق على منحهم شهادات شكلية تفي بهذا المضمون، وتعاون أمراء القرى والهجر معهم بل حتى القضاة وأئمة المساجد، وصار منظر الشاحنات الصغيرة والكبيرة وهي تقل الحمير مألوفاً عند الكثيرين في تلك الفترة، وانطوت الصفحة قبل الأخيرة من تاريخ الحمير في بلادنا أما الصفحة الأخيرة ففي أرض المهجر ببلد اليمن السعيد تحتاج إلى من يوثقها.
و قبل أن أودع صاحب الحمار والحديث الشجي أطلق الحمار نهقة مميزة، وكأنه يعلن من خلالها عن تأثره بالمأساة التي تعرض لها أجداده الحمير في بلادنا!! عندما ركبت السيارة سألت طفلي الصغير ـ هل شاهدت البعَّه ؟! فنظر إليَّ طفلي بخوف وقال : هذي ما هي بعة.. هذي عوَّه!! ( العوَّه هي الحيوان المتوحش، وفي بعض روايات الأطفال هي الجني الممسوخ على هيئة حيوان مخيف )
وصلت إلى منزلي مساءً، فأتيت إلى حيث تجلس جدتي وقبَّلت رأسها، وجلست أحدثها عن مفارقة استيحاش ابني من الحمار!! فابتسمت جدتي وقادني الحوار معها إلى حديث مستفيض عن الدور الجليل الذي كانت تقوم به الحمير في حياة أجدادنا التي تصرّمت أيامها...
وكان مما قالته لي : أن العريس كان يزف على موكب مهيب من الحمير يثير حسد كل الجارات!!
بعد أن انتهى حواري مع جدتي الغالية التفت إلى ابني الصغير وتساءلت : ترى كيف سيتدبر أبناؤه وأحفاده أمورهم حين يجدوا أنفسهم ـ بعد سنوات ـ بلا نفط ولا حمير.
بقلم : عثمان صالح الحقيل