بعد الفشل في ضبط الأمن .. الأمريكان يمهدون لبلقنة العراق
د.علي محمود
في جوقة المتحكمين بأمور العراق "الجديد" ثمة مزيج سياسي غريب العناصر، شاذ الملامح تحول فيه المنظرون إلى مسوقين للمشروع الأمريكي في العراق والمنطقة..بل باتت كل الطروحات مقبولة طالما لم تتناقض مع أولويات المشروع التوسعي للمحافظين الجدد.
فلا ضير في أن تطالب الأحزاب الانفصالية الكردية بضم القسم الأكبر من محافظة ديالي العربية إلى كيانها الانفصالي، وأن يطالب بعض مسيحيي العراق بإقامة مقاطعة إدارية خاصة بهم شمال الموصل، فيما يطالب البعض الآخر بإقامة كيان شيعي يمتد من سامراء إلى جنوب البصرة؟!
قال مسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان: أمام العراق ثلاثة خيارات فقط هي: التقسيم، أو الفيدرالية، أو الكونفدرالية، وأضاف في تصريح لإذاعة صوت أمريكا الناطقة باللغة الكردية مؤخراً: "من غير الممكن أن تستطيع حكومة مركزية مرة أخرى أن تدير شؤون العراق"، مؤكداً أنه في حال وقوع الحرب الطائفية فسيمتنع الأكراد عن دعم أي طرف، سواء أكان شيعياً أم سنياً في حرب بين الشيعة والسنة. ولم يستبعد البارزاني استقلال كردستان نهائياً عن العراق قائلاً: "على الدول المجاورة ألا تنظر لمسألة استقلال كردستان وكأنها خطيئة، لأن الأكراد مثل سائر الشعوب من عرب وترك وفرس لهم الحق في الحرية والاستقلال، فهذا الحق قد تم اغتصابه ويجب أن تتم استعادته، والمسألة تتعلق بمتى وكيف يتحقق؟!".
كما طالب عبد العزيز الحكيم رئيس "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" بإقامة فيدرالية الوسط والجنوب بأسرع وقت.
وفي السياق نفسه الساعي لتقسيم العراق أكد السكرتير الصحفي لجلال طالباني مؤخراًً أن أكراد العراق لن يوافقوا على عراق موحد عضو في الجامعة العربية، ويمكن أن يوافقوا على عراق موحد بشرط ألا تكون له أي صلة أو علاقة بالعالم العربي وجامعته العربية!!
وتتوافق السيناريوهات الانفصالية مع الإستراتيجية الأمريكية المعلنة منذ أمد بعيد، فلم يخف هنري كيسنجر السياسي الأمريكي المعروف أن تقسيم العراق هو أحد حلين يراهما للعراق، وقال هنري كيسنجر عبر برنامج "حوار صعب" (Hard Talk) على إذاعة (BBC) البريطانية في 8-3-2006م: "إن العراق ربما يسير باتجاه مصير يوغوسلافيا السابقة".
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها أهم راسمي السياسة الأمريكية عن تقسيم العراق. ولا هي المرة الأخيرة فيها، حيث تبع هذا القول بالذات أطروحات تفتيتية إضافية في العراق، لا هدف لها سوى تنفيذ سياسة كيسنجر عبر الأطروحات الدستورية، بعد أن فشلت كل الأساليب الدموية على مدى السنوات الماضية في إخضاع العراق للاحتلال الأمريكي.
ومما تقدم فليس بمستغرب تصديق ما صدر عن مصادر صحفية أوروبية، مفاده أن وحدات عسكرية صهيونية قوامها ثلاثمائة عنصر، وصلت إلى المنطقة الكردية في إطار خطة لتشكيل جيش كردي بتدريب صهيوني. ونسب ذلك الخبر إلى مصادر قولها إن قادة أكراد وقّعُوا على اتفاقيات مع "إسرائيل"، تقوم بموجبها ببناء مطارات مدنية وعسكرية ومستودعات للأسلحة ومعسكرات للجيش الكردي.. إلى جانب إقامة مكاتب تجسس في كردستان العراق.
وفي سياق متصل طالب السناتور "جوزيف بايدن" العضو البارز في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي بضرورة تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق تتمتع بحكم ذاتي واسع النطاق: للأكراد، والسنة، والشيعة.. مع إنشاء حكومة مركزية في بغداد لها سلطات أقل. وفي مقال نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" مؤخراً، أكد بايدن: "أن جهود إدارة الرئيس الأمريكي بوش لإقامة حكومة مركزية قوية في بغداد محكوم عليها بالفشل؛ بسبب التناحر الطائفي والعرقي، الذي قاد إلى أعمال عنف واسعة الانتشار".
وقال "بايدن وليزلي" الرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية الذي شارك في كتابة المقال: "يبدو واضحاً على نحو متزايد أن الرئيس بوش ليست لديه إستراتيجية للنصر في العراق، بل إنه يأمل في تجنب الهزيمة وتمرير المشكلة لخليفته".
وأضاف أن تقسيم العراق سيكون على غرار البوسنة قبل عقد مضى، حين قسمت البلاد التي عانت ويلات الحرب إلى اتحادات على أساس عرقي بموجب اتفاق "دايتون" الذي أبرم بوساطة أمريكية..
وقال بايدن إنه في إطار الخطة يتعين على الولايات المتحدة سحب معظم قواتها من العراق بحلول عام 2008م، باستثناء قوة صغيرة لمكافحة ما يسمى الإرهاب. وبموجب اقتراح "بايدن" يقسم العراق إلى ثلاثة أقسام: منطقة للأكراد في الشمال، ومنطقة للسنة في الوسط، ومنطقة للشيعة في الجنوب.. وكل منطقة تكون مسؤولة عن تطبيق قوانينها المحلية وعن الإدارة والأمن الداخلي. وتسيطر الحكومة المركزية على الدفاع عن الحدود والشؤون الخارجية وعائدات النفط.
دستور انفصالي
وبعد مؤامرة تمرير الدستور المهلهل وتصريحات وسياسات الأمريكان ومواقف القوى السياسية الداعية للانفصال اتضحت الصورة، ولم يعد هناك التباس أو شكوك حول مخططين يجري إعدادهما لمستقبل العراق:
الأول: تمرير دستور بدون الهوية العراقية العربية، والإصرار على الفيدرالية المؤسسة على الطائفية والعرقية، بعيداً عن العرب وجامعتهم العربية.
والثاني: تقسيم العراق على الأسس الطائفية إلى ثلاثة كيانات هزيلة، ولتسهيل عملية تمرير مشروعي الفيدرالية وبعدها التقسيم يجري ومنذ مجيء عملاء الاحتلال زرع الأحقاد بين مختلف طوائف العراق، من خلال انتقامات القتل المتبادلة هنا وهناك، تمهيداً لسلخ العراق عن أمته العربية.
ومن ضمن مخطط سلخ العراق تجاهل مسوّدة الدستور عروبة العراق، والتصريحات الاستفزازية ضد العرب من قبل الرئيس العراقي جلال طالباني، بذريعة ضعف التمثيل الدبلوماسي العربي في العراق المحتل، غير أن الهدف الحقيقي من هذه التصريحات خلق أرضية أكبر وأوسع لخصام مصطنع بين العراق وأمته العربية، لإتاحة فرصة أكبر تبرر تنفيذ المخطط الشعوبي.
التقسيم كارثة إقليمية
لكن سياسيين عراقيين معارضين من الشيعة والأكراد والسنة، تحدثوا عبر وسائل الإعلام، أعلنوا اعتراضهم بشدة على ما وصفوها "خطة بايدن المفخخة"، موضحين: "أن العراق ليس البوسنة، وجيران العراق ليسوا كجيران البوسنة، ومن الخطأ تصوّر أن تقسيم العراق يمكن أن يؤدي إلى الاستقرار، فما سيحدث ببساطة فتنة أكبر، وصراعات أشد، بين المناطق المقسمة، من جهة، وداخل كل منطقة من جهة ثانية، وتوفير مسوغات جديدة لدول الجوار وغيرها كي تتدخل بشكل أكبر في شؤون العراق، وانحياز كل منها إلى طرف ضد آخر، كما أن الصراعات الناشئة عن تقسيم العراق ستنتقل إلى داخل دول كثيرة مجاورة أو غير مجاورة للعراق، مما سيفتح المنطقة على مشهد كارثي أكثر سوءاً مما هي عليه الآن".
وهذه الأخطار تكفي لإلغاء فكرة تقسيم العراق التي ستضر بالعراقيين ودول المنطقة، ولا مانع من أن يكون هناك تفكير جاد في شكل العراق الجديد، تتوافر فيه سمة التعددية والوحدة في آن واحد، والاستقلالية والاتحاد معاً، وربما يتحقق ذلك عن طريق بلورة مناطق العراق على شكل ولايات مستقلة تشكل في مجملها "العراق" الواحد.
انطلاقاً من أن الاعتماد على عوامل التنوع العرقي والمذهبي في العراق لا يصلح أساساً مقنعاً للتقسيم.
============================== =========================
منقووووووووووول من مجلة المجتمع ...