اليوم ليس يومي
أقف أمام مرآتي ، شامخة كسنابل الحقل الندية ، تتمايل بكل ثقةٍوإغراء ..مُشبعة
بالجمال ، تلمع في الضياء ، تعكس وله الحب ، وجنون الحياة .. كل شيء مرسوم
بدقة ، خطوطٌ من الذهب تحوي العينان ، ترسمها بدقة واتساع ... وبعض الألوان
تتوزع في إتقان ترسم الجمال للأعيان شعري جمع بشدة ليرسم فوق رأسي تاج
ملك ، لا تلبسه إلا الحسناوات ، وفستانٌ اخترته بلون الذهب ، ليرسم جسدي بكل
دقة واقتدار ، جملتهُ فتحةٌ تتوسطه من الأمام ، لتظهر روعة جسد فاتن وريان ،
وقَصةٌ كبيرة تحيط بالرقبة ، تظهر ما شاء لها من المفاتن التي تبهر النساء ...
الكل سيتحدث عني سأكون فتنة الحفل ، وسيدة هذا الزواج ... تنهرني أختي
معاتبتاً :- لما كل هذا الاهتمام وكأنك أنت العروس .. اليوم ليس يومك فلست ملكة
الحفل المنتظرة ! بل أنا سيدة هذا الحفل وسترين أجبتها وأنا ألمم ما تبقى من
أدوات زينتي ، وأدفنها في ظلمة الحقيبة الذهبية ، وأغرق جيدي بأغلى العطور
فسيكون اليوم يوم النفاق العالمي الكل سيمطرني بنظرات الإشفاق المصطنعة ،
وستضمني الأيدي متعاطفة ، وستراقبني تلك العيون التي لا هم لها إلا ماذا
فعلت ...ابتسمت ...لا ضحكت ... بل مسكينة الحسرة تسكن أهدابها ، والهم قصم
ظهرها ... ولازالت في عناد .عندما دخلت إلى الصالة سكت العالم فجأة ، فالتوت
الرقاب باتجاهي ، وجالت العيون باحثة عني ، أرى الأيدي وهي تشير إليّ ،
فليس كل المدعوات يعرفنني .. النظرات تنهش كبريائي ، والأيدي تقتل كل
ابتسامة تحاول جاهدة شق طريقها إليّ شفتي ... والأفكار تقف مزدحمة بين
عقلي وقلبي ... فهذه الصالة ضمت فرحتي قبل عشرة أعوام ، لم أدخلها إلا ويده
تضم يدي ، فلم أرى منها الكثير ولم أحسن التجول فيها بعد ، ولكني أحاول
جاهدة شق الصفوف ، وأرسم على شفتي ابتسامة امرأة تنزف أنيناً وألماً ،
وتعكس عيناها لون الفرح ... وصلت لمعقد والدتي ، أضمها ، وأقبل رأسها
ويديها ، أمسح دموعها التي بللت يدي وأرى شفتيها تتحرك ولكن لا أسمع ما
تقول ولكن صدى صوتها يحدثني من بين أفكاري الهاربة من مربطها :- الله
يساعدك ... أ لم يجد وسيلة أخرى ليقتلك بها.... آه يا أمي لو تعلمين أن بركاناً
يوشك أن ينفجر داخلي ، وأن طبول العالم بأسرها تضرب الآن فوق رأسي ،
فلا أريد دموعك الغاليةفقد ذرفت أكثر وأسخن منها ، وأنا أقبل يديه ، وأرجوه
ألا يقتلني ... فحين تزوجته أردت الحياة لا الانتحار... وأي انتحار أصعب أن
أحضر زفافه بنفسي وأبارك له ما فعل ... إن السهام التي أرمى بها من كل
جوانب الصالة ، كفيلة أن تقتل قطيع من الجمال ، فكيف بامرأة سكن الذل دارها
، وأصبح الهم جارها ، والوحدة بابٌ سكنت قلبها ...
أسمعها وأنا أهم بالرحيل :- ليتك لم تحضري يا بنيتي هذا الزواج ... وكيف
لا أحضره يا أمي لقد عاهدته أن أكون معه في الأفراح والأحزان ، واليوم أنقسم
ربيع عمري وسقطت تفاحة الحياة ، لقد تقاسمنا البارحة الكون ، هو أخذ الضياء
والفرح والنهار ، وكان نصيبي العتمة والحزن وليالي الشتاء اليوم فرحُه سأكون
معه وهو يوم حزني وسيكون مع غيري ،
لم يتعلم معنى الوفاء كما تعلمته ...أتذكرين يا أمي عندما أسميت ابنتي وفاء
لم يعرف معنى الاسم ، واليوم أنا أجسد المعنى والاسم .... وقد اسما ابني متعب
ورفضت هذا الاسم ، ولكنه أخبرني أن اسمه مفاجأة أيامي ، وصمت بوحي ،
وأنني سأرى معنى الاسم جلياً واضحاً ، تقاطعني إحداهن :- أنتي زوجته
الأولى ... نعم ، قلتها وأنا التفت لأراها وأكملت :- كم عندك من الأولاد ... أربعة ،
لدي أربعة أبناء ثلاثة أولاد ، وبنت وحيده ، فلما السؤال ، سألتها وأنا أحدق
في ملامحها الجريئة الخالية من الحياء .. أجابتني ضاحكة :- لاشيء مجرد
فضول ....أو يفعل الفضول هذا !! تغمد خنجرها في صدري ، وأنزف دماً
حاراً حارقاً بين يديها فلا ترحمني أو تخجل من نفسها ... لقد جعل منا الفضول
نساءً متعلمات وأمهات صالحات ، كان الفضول عندنا زيادة معرفة وليس أداة
قتل ... تقع عيناي على إحداهن يكاد ثوبها يسقط عن جسدها ، لولا خيط من
الحرير يمسك برقبتها ،وفصٌ من الألماس يستر فخذها ، وتضع على رأسها شعر
امرأة ميته لهذا هو ليس بمقاسها فالوجه صغيرٌ والشعر أكبر منه بكثير .. جامد لا
يتحرك ، فتبسمت في وجهها فرمقتني بنظرة مزقتني ، وأبعدت عينيها عني ،
وقد قذفت بكل قطعة لحماً انتزعتها من جسدي أرجاء الصالة ، وسحقتني
بابتسامة ساخرة ، وعصرت دمي وقد لونت به كلماتها :- الله لا يبلانا ما بلاك ...
أصبحت امرأة ممزقة مبعثرةٌ أوصالها ، على كل طاولة في الصالة ، يرتمي عضو
من أعضائي ، تنهشه العيون الحائرة ، وتمزقه الأفواه الجائعة ، التي لا تشبع إلا
بملئها بالدماء .... دمي ينصب من بين الخلايا تعصره أيديهن ليلون كلماتهن القاتلة
، التي تُرمى عليّ ... أشعر أن عيونهن تمطرني بالإهانات وأيدهن تُقذف في
وجهي ...... أركض هاربة نحو الباب، أشعر بهن وقد رمين أيدهن خلفي ،
واقتلعن أعينهن لتمزق ما بقي لي من ستر ،وقذائف من حروف حارقة وجامدة
تنهال علي ّ ، وأنا أدفع الباب بجسدي المليء بسهامهن ، والدموع تغرق وجهي
، لتغسل ما أصابه من الدماء ، وترتعش يداي، وأنا أترك قبضة الباب بعد فتحه ،
فهاهو أمامي يده تضم يدها بالحنان ذاته ، ونظراته تنتقل فرحاً بين حنايا جسدها
الذي تملّكهُ ، فقد ظفر الأسد بغزال بري جميل ، لينهش لحمه ويشرب صبره
وحلمه ... ومن بين نظرات فرحه رمقني بنظرة عتابٍ على حالي ...
لم أجد لي مكاناً بينهم اليوم ليس يومي ، هكذا أجبته ، وأنا ألعق جراحي
وحيده وقد غصت في دخان بخوره فلم يعد أحد يراني .