لعب المتنبي دورا كبيرا في الشعر العربي، فقد طرق أبواب الفنون الشعرية المعروفة، ولم يكن في وقته من يساويه في فنونه التي جمع فيها من الأدب فنونا وذلك أنه ضرب في كل شيء منها بسهم وافر. وكان يتخذ شعره صناعة، فلا يقوله ارتجالا ولا يندفع مع سجيته. وقد أجاد وأبدع في شعره سواء من ناحية الخيال والأسلوب.
ويظهر أن ذكاءه الحاد ونفسيته العالية ساعداه كثيرا على التحليق في شعره بين كثير من الشعراء الذين عاصروه. ونتيجة رحلة شاقة في ديوانه وتتبع أخباره وجدت شعره يكاد يتصف بدقة وصف وصدق لهجة وبراعة تركيب وروعة معاني. فهو شاعر متقد العاطفة، مرهف الحس، تطالعنا في شعره صور مغرية جذابة تأخذ بمعاقد القلب. والمتنبي كان أبعد شعراء هذه الحقبة صيتا، ومع أنه كان جوابة يتنقل ما بين مصر و خراسان يمدح الملوك والأمراء والوزراء وينال رفدهم، فإنه يقول كاللائم لنفسه:
إلى كم ذا التخلف والتواني وكم هذا التمادي في التمادي
وشغل الناس في طلب المعالي ببيع الشعر في سوق الكساد
ونستطيع أن نلمس من قراءتنا للديوان، تفوق أبي الطيب المتنبي في أغراض معينة هي: المدح والفخر والهجاء والحكمة والرثاء والوصف. و أبو الطيب كما يتضح لنا كثير المبالغة في شعره، فنحن نأخذها عليه من الناحية الأدبية، ولا نستدل بها على فساد عقيدته، فمن ذلك قوله في مدح محمد بن زريق.
لو كان للنيران ضوء جبينه عبدت فصار العالمون مجوسا
ومن ذلك قوله من قصيدة قالها في صباه:
عمرك الله هل رأيت بدورًا طلعت في براقع وعقود
راميات بأسهم ريشها الهد ب تشق القلوب قبل الجلود
يترشفن من فمي رشفات هن فيه أحلى من العنقود
والمتنبي فخور بشعره، لا يرى في الشعراء من يوازيه، وقد ساءه من سيف الدولة أن يساويه بغيره وهو الشاعر الكبير الذي يحب سيف الدولة حبا صادقا، فعاتبه على ذلك ودعاه إلى التمييز بين الشحم والورم، والنور والظلمة، وأن يقدر مكانه الرفيع بين الأدب والشعر.
وما الدهر إلا من رواة قلائدي إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدَا
ودع كل صوت غير صوتي فإنني أنا الطائر المحكي والآخر الصدى
وربما كان المتنبي وحده الشاعر الذي حضر الحروب في هذه الحقبة، وحارب في جيش سيف الدولة، وذاق لذة النصر ومرارة الهزيمة، وقال أحسن الشعر العربي الذي قيل في وصف الحرب من قبل ومن بعد، ويكفيه أنه استطاع أن ينشد بمجلس سيف الدولة على رؤوس حساده:
ومرهف سرت بين الجحفلين به حتى أتته يدٌ فرّاسة وفـم
فالخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
صحبت في الفلوات الوحش منفردا حتى تعجب مني القور والأكم
وما دمنا في الحديث عن فخره، فلا غرابة إذا ما ذكر قومه في مفاخره:
ما بقومي شرفت بل شرفوا بي وبنفسي فخرت لا بجدودي
وبهم فخر كل من نطق الضاد وعوذ الجاني وغوث الطريد
ما مقامي بأرض نخلة إلا كمقام المسيح بين اليهود
أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود
إن أكن معجبًا فعجب عجيب لم يجد فوق نفسه من مزيد
يذهب الدكتور عبد الوهاب عزام إلى أن قصائد المتنبي في وصف حروب سيف الدولة الداخلية والخارجية تفوق الملاحم اليونانية واللاتينية والهندية والفارسية فهو الشاعر الذي وصف وقائع ذلك العصر وحوادثه الجسام وجلائل الحروب والأعمال وصفا دقيقا في قصائد حماسية رائعة. يقول المثل العربي المشهور "القتل بالسيف أوحى" أو "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك" حيث تدور رحى الحرب على السيف قديما، فهو سلاح ماض يفيد في ميادين الحرب منذ الجاهلية حتى الأمس القريب. يقول المتنبي:
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي المجد للسيف ليس المجد للقلم
وقد قرر المتنبي للسيف أمثالا سوائر بقيت كالكواكب سطوعا ونصوعا على هامة الزمن:
إذا كنت ترضى أن تعيش بذلة فلا تستعدن الحسام اليمانيا
وقوله:
تحمي السيوف على أعدائه معه كأنهن بنوه أو عشائره
وقوله:
قد زرته وسيوف الهند مغمدة وقد نظرت إليه والسيوف دم
وقوله:
حقرت الردينيات حتى طرحتها وحتى كأن السيف للرمح شاتم
ومن أروع قصائد الحرب قصيدتان الأولى بائية وهي التي وصف بها المتنبي ظفر سيف الدولة ببني كلاب، وذلك لدى خروجهم عليه سنة 343هـ كقوله:
طلبتهم على الأمواه حتى تخوف أن تفتشه السحاب
فبت لياليًا لا نوم فيها تخب بك المسوّمة العراب
يهز الجيش حولك جانبيه كما نفضت جناحيها العقاب
وتسأل عنهم الفلوات حتى أجابك بعضها وهم الجواب
أما القصيدة الثانية الرائية التي سجل فيها انتصار الأمير المذكور على قبائل عقيل وقشير وبني العجلان وبني كلاب أيضا عندما تألبوا عليه وعاثوا في أطراف إمارته فسادا عام 344هـ وفيها تصوير صادق وتحليل مستفيض وصف فيها الشاعر عدم ركون البدو بطبيعتهم إلى الشغب وتألبهم على سيف الدولة ومحاولتهم الإخلال بنظام مملكته وانهزامهم أمامه في النهاية انهزاما شنيعا وإبقاءه عليهم حلما وكرما.
فلزَّهم الطـراد إلى قتال
أحدّ سلاحهم فيه الفـرار
مضوا متسابقي الأعضاء فيه
لأرؤسهم بأرجلهم عثار
يشلهم بكل أقبّ نهدٍ
لفارسه على الخيل الخيار
وكل أحم يغسل جانباه
على الكعبين منه دم ممار
يغادر كل ملتفت إليه
ولبَّته لثعلبــه وجــار
إذا صرف النهار الضوء عنهم
دجا ليلان ليل والغبار
وإن جنح الظلام انجاب عنهم
أضاء المشرفية والنهار