المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دراسة نقدية


الصفحات : [1] 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25

د.شكير فيلالة
26-03-2007, 09:49 PM
"سماوات"(1)
عمق أزرق لحكايات مصورة

د.شكير فيلالة1-

1.صيغة وجود تحت أكثر من سما واحدة.

"سماوات" هي المجموعة القصصية الثانية للفنان "عبد المجيد الهواس" تعالج موضوعاتها حالات إنسانية بترددات وجودية استنبطت من أوضاع اجتماعية، تدور جل أحداثها في مكان تستحوذ عليه السماء بزرقتها وغيومها ونجومها، فتستضيف تأملات الشخوص وأمانيها المعلقة بين السماء والأرض، فلا تقدر على الانفكاك من جاذبية الأرض إلا بالبحث عن زاوية أو كوة أوثقب تطل منها السماوات التي تأسر الشخصيات القصصية في تطلعها إلى الأعلى بطريقة درامية ومأساوية لتتخلص من الانجذاب إلى الأرض والواقع المر الدامي، ومجاهدة لاحتلال السماء وحسم الصراع لصالح اللامكان عبر وساطة الخمر التي تطيح بأيقونات الزمن المتهرئ والشاحب. إنها قصص تحكي عن تيه ومعاناة الشباب العربي بالمهجر، الذي يعيش المطاردة والحضيض، ولا يملك إلا شمسا متعبة وسماء ملبدة بغيوم الغليون المحشي بضياعهم ورغبتهم في فض الاشتباك بين الأنا والآخر.
"ها أنا ذا قد أضعت الطريقة التي سيقود في إلى غرفتي، لم أتعلم بعد مسارب المدينة، والليل الكابي لا يتنفس الهواء …كل النوافذ نائمة، والنباتات ماتت واقفة …ربما تستيقظ غدا، إن وجدت نفسي مرة أخرى على هامش الحياة" (2)
هامش يزيد من ضياعهم وخسارتهم قبل ربحهم ويزداد بؤسهم في أن يكونوا كما يشاءون
" بدأت أنسحق في الداخل …أتوارى وأعجز عن دغد الطين. بدأت تكبر المسافة بيننا وبين الأكاديمية الملكية للفنون. لكننا في نهاية المطاف كنا قد راهنا على الخسارة قبل أن نراهن على الربح. لأن الحلم كان قد أفسد علينا مسبقا قبل أن نولد "(3).
تحتفي المجموعة بالمرأة في سياق تشخيصها للواقع بأناسه و أحداثه، حيث الحديث عن الحب والمغامرات الجنسية التي تعوض حالات الغربة والاغتراب. قصص غالبا ما تنتهي إلى الإخفاق المعمق للمسافة الفاصلة بين واقع الأرض وأحلام السماء التي تحلق فيها الملائكة الصاعدة من رماد الخفافيش.
" لم يكن الألم في الرأس، كان في صدر فدوى التي سترحل عنا قريبا كي تنسى أنها استطاعت أن تعيش ها هنا إلى جوار رجل يقلم عروقه كما لو كان يقلم أضافره يعيش على شفا تلك الحفرة السحيقة من الرماد. غدا سوف أذهب إليها قبل أن تركب قطارها لأقول لها بأن اليد لم تعد تتحرك، وأنها شلت تماما سأقول لها بأنني في حاجة إليها"(4)
قصص تبني عالمها من ذكريات الطفولة حيث الزيتونة والليمونة ومذاق الزفزوف والطاحونة الصخرية والأرجوحة المعلقة برسوخ في سقف يفتحه التحليق العالي على سماء تسترد لونها النادر على إيقاعات ريح تأتي من بعيد، تحمل عبق البيوت والأزقة القديمة، وصقيع صحون الجوامع.
" ها إني أتملى رطوبة السنين وهي تصعد الحيطان وتفصل قطع الزليج عن طينها دون أن تسقط تماما(....) وحتى إن سقطت قطعة بأن رنينها لا يتلاشى. يحمل إلي أصوات الطفولة وعبق روائح البخور والأشجار "(5)
كما ترسم ملامح يومها الحار والممطر حيث زرقة السماء الكسولة تستحمل حملقة الجميع ريثما ينقضي النهار ويسدل الليل سدوله الثقيلة.
" انتظروا ساعة أو أكثر حتى كاد أن يصيبهم القرف لكنهم ظلوا يتسلون بالزرقة التي تطل عليهم من فوق يكسل ريثما تتحرك عقارب النهار " (6).
فتنسج زمانها من الأيام الرتيبة التي تشل الخيال والحركة وتدخل الناس في تثاقل لا ينفذ.
" أفكر فيها كما لو كان لا أحد، وأنهض ليتبدد الوقت عبر الشوارع حيث لا خطة لي كي أسير (…) تبدد السائرون على الأرصفة، وظلت البنايات واقفة في صمت. بترعاتها التي دفنت خلفها جحورا صغيرة " (7).
وإذا كانت أدوار شخصيات قصص "سماوات" اتخذت من منحدرات السماء ردهات للانفكاك من ألامها وأنينها و ونسا لوحدتها وعزلتها، ومجالا لتحفيز الذاكرة والنجوى. فإن هذا الواقع يضعنا أمام أكثر من سماء واحدة. لذلك فهذا التعدد "السمائي" يحصره فضاء المدينة لذلك عمل "عبد المجيد الهواس" من خلال هذا التعدد على تخطيط جسد المدينة، التي تحتل مكان الإنسان ويحتل الإنسان مكانها كمجال يتحقق فيه انسجام التضاربات :
-الحرية القيود .
-الرقي الانحطاط .
-التلاقي الافتراق .
-الامتلاك الفقد .
-السرعة البطئ .
-الحركة السكون .
من هنا نستنتج أن اللاتواصل مع المدينة يهيمن أكثر من التواصل ليرسم القاص مدارات محزنة لسماء مدينة مشبعة بالسوداوية والظلال والانعكاسات، مدينة تخلى عنها الفرح فصارت فضاء للعبور والهروب والهلع والسلطة، لذلك عانت شخوصه من الذعر والكآبة واليأس واعتملت في دواخلها التشجنات والتساؤلات والتحولات والأفراح المفتعلة بحب مدنس وبخمرة امتزجت بدم الوريد وإيقاع نبض قلب وجل وخائف.
" وإذن، سيكون " كنال 13 " هو مكان ارتيادنا المعهود أو لنتبنى تسميه إيغور له: " الحضيض " استنادا إلى عالم " ماكسيم غوركي " المثخن. "الحضيض" هو المرقص الليلي الأكثر حضيضا …هناك حيث كانت المدي تنسل والعيون تدمع رغبة في سيجارة محشوة …أو زجاجة شامبانيا سيدفع ثمنها رجل هاو جاء يبحث عن جوقة فتيات جئن يطمعن بترف زائل أو بترتيب جديد لمشاعر السهر "(8)
فإيقاع الأيام الرتيبة للمدينة جعلت شخوص المجموعة تعاني من الدوران في مكانها حيت الطيش والمجون.
" …كل العلب تصير فارغة، ندخن السجائر الأجيرة من يوم طائش. اليوم الطويل الذي لا ينتهي فقط لأنه لا يبتدئ..تتكور النشوة كرة صغيرة في الداخل …كرة مطاط صغيرة تتقاذفها كي ننسي شيئا لم نتذكره بعد " (9).
هكذا، فتشكيل القاص لفضاء المدينة المتشاكل مع لون السماء اللازوردي يحضر فيه وعي حضري لا يخلو من أبعاد تشكيلية وجمالية أسعفته في ذلك ثقافته الفنية وتخصصه الأكاديمي، فشكل فضاءات طبيعية تعج بالضوء والشمس والليل، والبحر واليابسة، والامتداد والسكون والحركة، وتنوعات الطقوس الفصلية. وفضاءات روحانية فنية تحتفي بالفن والموسيقى و الترميزات الدينية. و فضاءات نفسية وذاتية تنشطها إيقاعات مادية وروحية وجمالية وتاريخية و ذاكرية. إنها فضاءات تتصالح فيها المدينة مع علائق وسلوكيات مستعمليها، فتتصالح الأرض مع السماء لينتصر التواصل على اللاتواصل وتنسجم الحركة مع السكون والانحطاط مع الرقي والامتلاك مع الفقد والحركة مع السكون والتلاقي مع الاعتراف.مادامت السماء الشاهد علينا الضاحكة لضحكنا والباكية لبكائنا.
2_ السرد البصري و الرؤية الراصدة.

لقد ارتبط التفكير البصري أو التفكير بالصورة عند بعض الدارسين بالتخيل والذاكرة، وتعد هذه الأخيرة نشاطا يضع قدما في الماضي وأخرى في الحاضر، ترصد الأشياء في حركيتها وسكونها. ويتم تنشيط هذه الرؤية الراصدة بمجموعة من الآليات السردية.
وفي مقام المجموعة القصصية "سماوات" تحضر تفاصيل وجزئيات كثيرة من خلال وصف بصري يوحي بصور بصرية للأشياء عبر سرد بصري مكثف للوحات والمشاهد والانعكاسات وللوجوه والأنامل والألوان والسماوات. فهذه العملية الوصفية مكنت الراوي من تجميد الأفعال في المشاهد وداخل إطارات محددة.
" وتحركت بثقل تحت الأغطية. ودفعت عنها الشرشف وفركت عينيها على وجهي، ثم انسلت من الفراش وجلست على حافة جسدها النحيل المخدر تحت منامتها الشفافة البيضاء صار يدعو لشيء حين قامت وسارت نحوي، نظرت إلي متأملة جلستي الخجولة على حافة الكرسي " (10)
فوصف حالة استيقاظ "ماري" هو استدعاء لما مر وانقضى فيما يشبه مقطع من شريط سينمائي يتم التحكم في وثيرة حركته، وعملية تذكر سيناريو ما وقع مع إعادة تصويره بلغة القاص وتقطيعه الخاص.
كما قام "الهواس" بإفهامنا للعالم الذي تصاغ فيه حكايات شخصياته القصصية من خلال مستويات متعددة من الصور منها.
 الصورة اللفظية: والتي مثلها من خلال أنماط المجاز والتعبيرات الوصفية وحضرت تقريبا في جل قصص المجموعة.
 الصورة العقلية: وضمت الأحلام والذكريات والأفكار والتحليلات والتخيلات مثلا في قصة ( باب الريح - هذا ليس غليونا – قصة قصيرة ويوم حار).
 الصورة البصرية: وشملت المظاهر الخارجية والتمثلات الحسية مثلا في قصة (المطاردة – طبيعة ميتة- ويوم الأحد ).
 الصورة التصويرية: وتمثلت في الصور والتماثيل والمنحوثات والتصميمات مثلا في قصة ( غجر – الحضيض – سحب الماء وباب الريح ).
 فمن خلال هذه المستويات تتحول الصور إلى معايير مجردة، ذلك أن أغلبها مرتبط بأحاسيس ومشاعر مضمرة، وأخرى ناتئة، وثالثة مضمحلة يتم استدعاؤها عبر تقنية الإرجاع التذكري، فترد الإشارات المتصلة بالصمت والهذيان والفرح والكآبة والنظرة السريعة أو المحدقة والشاردة، وحتى ينفلت القاص من هيمنة الذاكرة المرتحلة للماضي يستحضر صورا مرتبطة بالحاضر مثل "الكنال 13" و"أكاديمية الفنون" و"البار" و"تحركات الشخصيات داخل إطار الحكي أو خارجه ".
و ذهب القاص أيضا في كثير من قصص إلى جعل شخصياتها الرئيسية تعيش على عالم من الصور الخاصة باللوحات المرسومة والمعلقة على جدران البارات والمقاهي أو المندمجة مع الحالات الوجودية والاجتماعية للشخصيات المجتمعة في مشهد واحد. هكذا، نجد في قصة " هذا ليس غليونا" الإشارة إلى لوحات مشهورة مثل لوحة: " مارغريت " التعبيرية ولوحة "ميرو " الشمس السوداء ". و الحديث عن منحوتات خشبية في قصة "غجر" حيث تمثال ماري القديسة ووصف تصميم وحالة السلالم الخشبية المتهرئة والمعتمة. وفي " قصة قصيرة " هناك تحويل للصور المرسومة الثابتة إلى صور متحركة ومندمجة بفعل تقنيات السرد البصري.
إذن، من خلال هذا الحضور القوي للمشاهد الساكنة والمتحركة وتقطيع كل مشهد إلى وحدات سردية تخضع لآليات المونتاج والتوظيب، يحقق القاص متعة تلق عوالم قصصه كأنها تحس باللمس وتعاش بالبصر.



هوامش وإحالات

- سماوات:عبد المجيد الهواس، مجموعة قصصية، منشورات أفروديت، الطبعة الأولى 2002 الرباط – المغرب-
2-المرجع نفسه، ص24.
3- المرجع نفسه، ص31.
4- المرجع نفسه، ص14
5- المرجع نفسه، ص87
6- المرجع نفسه، ص73
7- المرجع نفسه، ص56-57
8- المرجع نفسه، ص30
9- المرجع نفسه، ص40-41
10- المرجع نفسه، ص40-41